سورة الأنفال - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنفال)


        


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)}
واعلم أنه تعالى لما حذر عن الفتنة بالأموال والأولاد، رغب في التقوى التي توجب ترك الميل والهوى في محبة الأموال والأولاد. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: لقائل أن يقول: إدخال الشرط في الحكم إنما يحسن في حق من كان جاهلاً بعواقب الأمور، وذلك لا يليق بالله تعالى.
والجواب: أن قولنا إن كان كذا كان كذا، لا يفيد إلا كون الشرط مستلزماً للجزاء، فأما أن وقوع الشرط مشكوك فيه أو معلوم فذلك غير مستفاد من هذا اللفظ، سلمنا أنه يفيد هذا الشك إلا أنه تعالى يعامل العباد في الجزاء معاملة الشاك، وعليه يخرج قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين} [محمد: 31].
المسألة الثانية: هذه القضية الشرطية شرطها شيء واحد وهو تقوى الله تعالى، وذلك يتناول اتقاء الله في جميع الكبائر.
وإنما خصصنا هذا بالكبائر لأنه تعالى ذكر في الجزاء تكفير السيئات، والجزاء يجب أن يكون مغايراً للشرط، فحملنا التقوى على تقوى الكبائر وحملنا السيئات على الصغائر ليظهر الفرق بين الشرط والجزاء، وأما الجزاء المرتب على هذا الشرط فأمور ثلاثة: الأول: قوله: {يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا} والمعنى أنه تعالى يفرق بينكم وبين الكفار. ولما كان اللفظ مطلقاً وجب حمله على جميع الفروق الحاصلة بين المؤمنين وبين الكفار فنقول: هذا الفرقان إما أن يعتبر في أحوال الدنيا أو في أحوال الآخرة.
أما في أحوال الدنيا فإما أن يعتبر في أحوال القلوب وهي الأحوال الباطنة أو في الأحوال الظاهرة، أما في أحوال القلوب فأمور:
أحدها: أنه تعالى يخص المؤمنين بالهداية والمعرفة.
وثانيها: أنه يخص قلوبهم وصدورهم بالانشراح كما قال: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام فَهُوَ على نُورٍ مّن رَّبّهِ} [الزمر: 22].
وثالثها: أنه يزيل الغل والحقد والحسد عن قلوبهم ويزيل المكر والخداع عن صدورهم، مع أن المنافق والكافر يكون قلبه مملوءاً من هذه الأحوال الخسيسة والأخلاق الذميمة، والسبب في حصول هذه الأمور أن القلب إذا صار مشرقاً بطاعة الله تعالى زالت عنه كل هذه الظلمات لأن معرفة الله نور، وهذه الأخلاق ظلمات، وإذا ظهر النور فلابد من زوال الظلمة.
وأما في الأحوال الظاهرة، فإن الله تعالى يخص المسلمين بالعلو والفتح والنصر والظفر، كما قال: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقين: 8] وكما قال: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ} [التوبة: 33] وأمر الفاسق والكافر بالعكس من ذلك.
وأما في أحوال الآخرة، فالثواب والمنافع الدائمة والتعظيم من الله والملائكة وكل هذه الأحوال داخلة في الفرقان.
والنوع الثاني: من الأجزية المرتبة على التقوى قوله: {وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ} فنقول: إن حملنا قوله: {إَن تَتَّقُواْ الله} على الاتقاء من الكفر، كان المراد بقوله: {وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ} جميع السيئات التي وجدت قبل الكفر، وإن حملناه على الاتقاء عن الكبائر، كان المراد من هذا تكفير الصغائر.
والنوع الثالث: قوله: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} واعلم أن المراد من تكفير السيئات سترها في الدنيا ومن المغفرة إزالتها في القيامة لئلا يلزم التكرار. ثم قال: {والله ذُو الفضل العظيم} ومن كان كذلك فإنه إذا وعد بشيء وفى به، وإنما قلنا: إن أفضال الله أعظم من أفضال غيره لوجوه:
الأول: أن كل ما سوى الحق سبحانه فإنه لا يتفضل ولا يحسن إلا إذا حصلت في قلبه داعية الإفضال والإحسان، وتلك الداعية حادثة فلا تحصل إلا بتخليق الله تعالى، وعند هذا ينكشف أن المتفضل ليس إلا الله الذي خلق تلك الداعية الموجبة لذلك الفعل.
الثاني: أن كل من تفضل يستفيد به نوعاً من أنواع الكمال إما عوضاً من المال أو عوضاً من المدح والثناء، وإما عوضاً من نوع آخر وهو دفع الألم الحاصل في القلب بسبب الرقة الجنسية والله تعالى يعطي ويتفضل ولا يطلب به شيئاً من الأعواض لأنه كامل لذاته، وما كان حاصلاً للشيء لذاته امتنع أن يستفيده من غيره.
الثالث: أن كل من تفضل على الغير فإن المتفضل عليه يصير ممنوناً عليه من ذلك المتفضل، وذلك منفر، أما الحق سبحانه وتعالى فهو الموجد لذات كل أحد بجميع صفاته، فلا يحصل الاستنكاف من قبول إحسانه.
الرابع: أن كل من تفضل على غيره فإنه لا ينتفع المتفضل عليه بذلك التفضل إلا إذا حصلت له عين باصرة وأذن سامعة ومعدة هاضمة. حتى ينتفع بذلك الإحسان، وعند هذا ينكشف أن المتفضل هو الله في الحقيقة فثبت بهذه البراهين صحة قوله: {والله ذُو الفضل العظيم}.


{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)}
اعلم أنه تعالى لما ذكر المؤمنين نعمه عليهم بقوله: {واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ} [الأنفال: 26] فكذلك ذكر رسوله نعمه عليه وهو دفع كيد المشركين ومكر الماكرين عنه، وهذه السورة مدنية.
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم من المفسرين: إن مشركي قريش تآمروا في دار الندوة ودخل عليهم إبليس في صورة شيخ، وذكر أنه من أهل نجد. فقال بعضهم: قيدوه نتربص به ريب المنون، فقال إبليس: لا مصلحة فيه، لأنه يغضب له قومه فتسفك له الدماء.
وقال بعضهم أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه لكم، فقال إبليس: لا مصلحة فيه لأنه يجمع طائفة على نفسه ويقاتلكم بهم.
وقال أبو جهل: الرأي أن نجمع من كل قبيلة رجلاً فيضربوه بأسيافهم ضربة واحدة فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم على محاربة قريش كلها، فيرضون بأخذ الدية، فقال إبليس: هذا هو الرأي الصواب، فأوحى الله تعالى إلى نبيه بذلك وأذن له في الخروج إلى المدينة وأمره أن لا يبيت في مضجعه وأذن الله له في الهجرة، وأمر علياً أن يبيت في مضجعه، وقال له: تسج ببردتي فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه وباتوا مترصدين، فلما أصبحوا ثاروا إلى مضجعه فأبصروا علياً فبهتوا وخيب الله سعيهم. وقوله: {لِيُثْبِتُوكَ} قال ابن عباس: ليوثقوك ويشدوك وكل من شد فقد أثبت، لأنه لا يقدر على الحركة ولهذا يقال لمن اشتدت به علة أو جراحه تمنعه من الحركة. فقد أثبت فلان فهو مثبت، وقيل ليسجنوك، وقيل ليحبسوك، وقيل ليثبتوك في بيت فحذف المحل لوضوح معناه، وقرأ بعضهم {لِيُثْبِتُوكَ} بالتشديد وقرأ النخعى {لِيُثْبِتُوكَ} من البيات وقوله: {أَوْ يَقْتُلُوكَ} وهو الذي حكيناه عن أبي جهل لعنه الله {أَوْ يُخْرِجُوكَ} أي من مكة، ولما ذكر تعالى هذه الأقسام الثلاثة قال: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين} وقد ذكرنا في سورة آل عمران في تفسير قوله: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين} [آل عمران: 54] تفسير المكر في حق الله تعالى، والحاصل أنهم احتالوا على إبطال أمر محمد والله تعالى نصره وقواه، فضاع فعلهم وظهر صنع الله تعالى.
قال القاضي: القصة التي ذكرها ابن عباس موافقة للقرآن إلا ما فيها من حديث إبليس، فإنه زعم أنه كانت صورته موافقة لصورة الإنس وذلك باطل، لأن ذلك التصوير إما أن يكون من فعل الله أو من فعل إبليس، والأول باطل لأنه لا يجوز من الله تعالى أن يفعل ذلك ليفتن الكفار في المكر، والثاني أيضاً باطل، لأنه لا يليق بحكمة الله تعالى أن يقدر إبليس على تغيير صورة نفسه.
واعلم أن هذا النزاع عجيب، فإنه لما لم يبعد من الله تعالى أن يقدر إبليس على أنواع الوساوس فكيف يبعد منه أن يقدره على تغيير صورة نفسه؟
فإن قيل: كيف قال: {والله خَيْرُ الماكرين} ولا خير في مكرهم.
قلنا: فيه وجوه:
أحدها: أن يكون المراد أقوى الماكرين فوضع {خَيْرٌ} موضع أقوى وأشد، لينبه بذلك على أن كل مكر فهو يبطل في مقابلة فعل الله تعالى.
وثانيها: أن يكون المراد خير الماكرين لو قدر في مكرهم ما يكون خيراً وحسناً.
وثالثها: أن يكون المراد من قوله: {خَيْرُ الماكرين} ليس هو التفضيل، بل المراد أنه في نفسه خير كما يقال: الثريد خير من الله تعالى.


{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)}
اعلم أنه تعالى لما حكى مكرهم في ذات محمد. حكى مكرهم في دين محمد، روى أن النضر بن الحرث خرج إلى الحيرة تاجراً، واشترى أحاديث كليلة ودمنة، وكان يقعد مع المستهزئين والمقتسمين وهو منهم، فيقرأ عليهم أساطير الأولين، وكان يزعم أنها مثل ما يذكره محمد من قصص الأولين، فهذا هو المراد من قوله: {قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الاولين} وهاهنا موضع بحث، وذلك لأن الاعتماد في كون القرآن معجزاً عن أنه صلى الله عليه وسلم تحدى العرب بالمعارضة، فلم يأتوا بها، وهذا إشارة إلى أنهم أتوا بتلك المعارضة، وذلك يوجب سقوط الدليل المعول عليه.
والجواب: أن كلمة {لَوْ} تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره. فقوله: {لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا} يدل على أنه ما شاء ذلك القول، وما قال. فثبت أن النضر بن الحرث أقر أنه ما أتى بالمعارضة، وإنما أخبر أنه لو شاءها لأتى بها، وهذا ضعيف. لأن المقصود إنما يحصل لو أتى بالمعارضة، أما مجرد هذا القول فلا فائدة فيه.
والشبهة الثانية: لهم قولهم: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي بنوع آخر من العذاب أشد من ذلك وأشق منه علينا.
فإن قيل: هذا الكلام يوجب الإشكال من وجهين:
الأول: أن قوله: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} حكاه الله عن الكفار، وكان هذا كلام الكفار وهو من جنس نظم القرآن فقد حصلت المعارضة في هذا القدر، وأيضاً حكى عنهم أنهم قالوا في سورة بني إسرائيل: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الارض يَنْبُوعًا} [الإسراء: 90] وذلك أيضاً كلام الكفار فقد حصل من كلامهم ما يشبه نظم القرآن ومعارضته، وذلك يدل على حصول المعارضة.
الثاني: أن كفار قريش كانوا معترفين بوجود الإله وقدرته وحكمته وكانوا قد سمعوا التهديد الكثير من محمد عليه الصلاة والسلام في نزول العذاب، فلو كان نزول القرآن معجزاً لعرفوا كونه معجزاً لأنهم أرباب الفصاحة والبلاغة، ولو عرفوا ذلك لكان أقل الأحوال أن يصيروا شاكين في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، ولو كانوا كذلك لما أقدموا عى قولهم: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء} لأن المتوقف الشاك لا يتجاسر على مثل هذه المبالغة، وحيث أتوا بهذه المبالغة، علمنا أنه ما لاح لهم في القرآن وجه من الوجوه المعجزة.
والجواب عن الأول: أن الإتيان بهذا القدر من الكلام لا يكفي في حصول المعارضة، لأن هذا المقدار كلام قليل لا يظهر فيه وجوه الفصاحة والبلاغة، وهذا الجواب لا يتمشى إلا إذا قلنا التحدي ما وقع بجميع السور، وإنما وقع بالسورة الطويلة التي يظهر فيها قوة الكلام.
والجواب عن الثاني: هب أنه لم يظهر لهم الوجه في كون القرآن معجز إلا أنه لما كان معجزاً في نفسه، فسواء عرفوا ذلك الوجه أو لم يعرفوا فإنه لا يتفاوت الحال فيه.
المسألة الثانية: قوله: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} قال الزجاج: القراءة بنصب {الحق} على خبر {كَانَ} ودخلت {هُوَ} للفصل ولا موضع لها، وهي بمنزلة ما المؤكدة ودخلت ليعلم أن قوله: {الحق} ليس بصفة لهذا وأنه خبر. قال: ويجوز هو الحق رفعاً ولا أعلم أحداً قرأ بها ولا خلاف بين النحويين في إجازتها، ولكن القراءة سنة، وروى صاحب الكشاف عن الأعمش أنه قرأ بها.
واعلم أنه تعالى لما حكى هاتين الشبهتين لم يذكر الجواب عن الشبهة الأولى، وهو قوله: {لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا} ولكنه ذكر الجواب عن الشبهة الثانية، وهو قوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن تقرير وجه الجواب أن الكفار لما بالغوا وقالوا: اللهم إن كان محمد محقاً فأمطر علينا حجارة من السماء، ذكر تعالى أن محمداً وإن كان محقاً في قوله إلا أنه مع ذلك لا يمطر الحجارة على أعدائه، وعلى منكري نبوته، لسببين: الأول: أن محمداً عليه الصلاة والسلام ما دام يكون حاضراً معهم، فإنه تعالى لا يفعل بهم ذلك تعظيماً له، وهذا أيضاً عادة الله مع جميع الأنبياء المتقدمين، فإنه لم يعذب أهل قرية إلا بعد أن يخرج رسولهم منها، كما كان في حق هود وصالح ولوط.
فإن قيل: لما كان حضوره فيهم مانعاً من نزول العذاب عليهم، فكيف قال: {قاتلوهم يُعَذّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14].
قلنا: المراد من الأول عذاب الاستئصال، ومن الثاني: العذاب الحاصل بالمحاربة والمقاتلة.
والسبب الثاني: قوله: {وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وفي تفسيره وجوه:
الأول: وما كان الله معذب هؤلاء الكفار وفيهم مؤمنون يستغفرون، فاللفظ وإن كان عاماً إلا أن المراد بعضهم كما يقال: قتل أهل المحلة رجلاً، وأقدم أهل البلدة الفلانية على الفساد، والمراد بعضهم.
الثاني: وما كان الله معذب هؤلاء الكفار، وفي علم الله أنه يكون لهم أولاد يؤمنون بالله ويستغفرونه، فوصفوا بصفة أولادهم وذراريهم.
الثالث: قال قتادة والسدي: {وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أي لو استغفروا لم يعذبوا، فكان المطلوب من ذكر هذا الكلام استدعاء الاستغفار منهم. أي لو اشتغلوا بالاستغفار لما عذبهم الله. ولهذا ذهب بعضهم إلى أن الاستغفار هاهنا بمعنى الإسلام والمعنى: أنه كان معهم قوم كان في علم الله أن يسلموا. منهم أبو سفيان بن حرب. وأبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب. والحرث بن هشام. وحكيم بن حزام. وعدد كثير، والمعنى {وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} مع أن في علم الله أن فيهم من يؤل أمره إلى الإيمان.
قال أهل المعاني: دلت هذه الآية على أن الاستغفار أمان وسلامة من العذاب.
قال ابن عباس: كان فيهم أمانان نبي الله والاستغفار، أما النبي فقد مضى، وأما الاستغفار فهو باق إلى يوم القيامة، ثم قال: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ الله} واعلم أنه تعالى بين في الآية الأولى أنه لا يعذبهم ما دام رسول الله فيهم، وذكر في هذه الآية أنه يعذبهم فكان المعنى أنه يعذبهم إذا خرج الرسول من بينهم ثم اختلفوا في هذا العذاب فقال بعضهم: لحقهم هذا العذاب المتوعد به يوم بدر، وقيل بل يوم فتح مكة، وقال ابن عباس: هذا العذاب هو عذاب الآخرة، والعذاب الذي نفاه عنهم هو عذاب الدنيا، ثم بين تعالى ما لأجله يعذبهم، فقال: {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام} وقد ظهرت الأخبار أنهم كيف صدوا عنه عام الحديبية، ونبه على أنهم يصدون لادعائهم أنهم أولياؤه، ثم بين بطلان هذه الدعوى بقوله: {وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاؤُهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المتقون} الذين يتحرزون عن المنكرات، كالذي كانوا يفعلونه عند البيت من المكاء والتصدية، والمقصود بيان أن من كانت هذه حاله لم يكن ولياً للمسجد الحرام، فهم إذن أهل لأن يقتلوا بالسيف ويحاربوا، فقتلهم الله يوم بدر، وأعز الإسلام بذلك على ما تقدم شرحه.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9